"ناعوت" فى ندوة عن الجمال بدير العذراء
شارك عدد من الراهبات فى ندوة "الكون، أنا.. الآخر.. الخليقة، أيقونة الجمال الإلهى" التى نظمها دير العذراء سيدة البشارة للأقباط الكاثوليك بكينح مريوط، على مشارف الإسكندرية، تحت رعاية الأب كيرلس تامر، راعى الدير، واستمرت أعمالها أربعة أيام من 15 إلى 18 نوفمبر الحالى، ضمن عطلة عيد الأضحى.
افتتح الندوة الأنبا بطرس فهيم، المعاون البطريركى، وشارك فيها د.لطفى الشربينى استشارى الطب النفسى، والشاعرة والإعلامية فاطمة ناعوت، إلى جانب مشاركات من الحضور تضمنت خبرات متنوعة فى العمل الميدانى فى تأهيل طلاب المدارس ومنتسبى المؤسسات المدنية.
ألقت فاطمة ناعوت محاضرتين، تناولت فيهما موضوع الجمال الذى انشغلت به فى مشروعها كله، فى الشعر والنقد والترجمة والكتابة الصحفية، فى المحاضرة الأولى، تجاوزت ناعوت الجمال الشكلى الخارجى الذى ركز عليه د.لطفى الشربينى فى محاضرته، فبدأت بطرح سؤال يدخل عمق الموضوع، ما مدى قدرتنا على صنع الجمال؟ وتحدثت عن أهمية الاشتغال على النفس للوصول إلى الجمال الذى ننشده، وضربت مثلاً بمريضى سرطان، أحدهما استسلم للمرض فهزمه الموت، والآخر قاوم فشفى، وهو الموضوع الذى تناوله فيلم "أنت عمرى"، وأشارت إلى أن راسبوتين نجا من السم لأنه تمتع بإرادة الحياة، بينما مات سقراط فور تناوله السم لأنه كان يريد أن يموت، راغبًا عن الحياة، بسبب يأسه من كهان أثينا السلفيين، وهو المبدأ المعروف فى علم النفس باسم "Mind over Matter"، أى أن العقل يسيطر على المادة.
وفى محاولة لتعريف الجمال قالت ناعوت، إن اللغة قاصرة، لاسيما فى تعريف الأمور غير المعيارية، وهل أكثر لا معيارية من الجمال؟ على أنها أكدت على أهمية التنشئة على تعلّم الجمال، وتذوقه، وافتقاده إن غاب، ثم إنتاجه، لأن صناعة الجمال هى أهم وظائف البشرية على الأرض. "الاشتغال على النفس يمكّنك من أن ترى جمالاً فيما يتفق الجميع على أنه ليس جميلاً"، هكذا قالت حين أرادت التدليل على نسبية الجمال، فما يراه أحدنا قبيحًا يراه الآخر جميلاً، لهذا يجب أن ننزع تاريخنا الشخصى وذاكرتنا مع الأشياء حين نشاهد الأشياء من حولنا.
وضربت مثلاً بالغراب الذى يتفق العرب على أنه نذير شؤم، لأنه فى تاريخهم رمز لحفار القبور، لأنه دلّ أحد أبناء آدم إلى طريقة دفن أخيه، وأيضا لم يعد بخبر للنبى نوح حين أمره بفحص بقعة جفّت من الفيضان، فإذا ما نحينا هذين الحدثين جانبًا ونظرنا إلى الغراب نظرة محايدة سنرى كم هو جميل فى حلته الرمادية أو السوداء كرجل متأنق يرتدى الاسموكنج، بنفس المنطق يمكن النظر إلى الصرصار.
أضافت فاطمة ناعوت، فلو أعطينا صرصارًا وفراشة لرجل من كوكب غير كوبنا، وطلبنا منه أن يقدم تقريرًا عما يراه، لن يجد فارقًا كبيرًا بينهما، من الناحية التشريحية، فكلاهما حشرة طائرة، بجناحين نصف شفافين وقرون استشعار، وعيون عدسية مركّبة.. الخ، إلا أن تاريخنا الثقافى والعملى يربط بين الصرصار والقذارة، لذلك فهو رمز للقبح.
وانتقلت فاطمة ناعوت بعد ذلك للحديث عن أوهام فرانسيس بيكون الأربعة التى تعوّق تواصلنا مع العالم ومع الله: الأول وهم الجنس البشرى، أو وهم القبيلة، الذى يجعل المرء معتزًّا برأيه وإن كان خطأ، فلا يستمع لآراء الآخرين، الثانى وهم الكهف، واستعار بيكون المسمى من أسطورة الكهف لأفلاطون، وفى هذا الوهم تتحكم التجارب الشخصية الضيقة التى نمر بها فى نظرتنا للأمور دون موضوعية. الوهم الثالث وهم السوق، فالناس يذهبون إلى الأسواق ويتبادلون الكلام غير الموثق ثم يتناقلونه باعتباره حقائق مؤكدة.
وفى هذا استشهدت بقصة من كتاب "كن إنسانًا" للأب كيرلس تامر تقول، إن رهبانًا وجدوا طفلاً رضيعًا أمام باب الدير، فأخذوه وربوه حتى صار صبياً ولم ير العالم الخارجى أبدًا. وفى أحد الأيام أرسله الأب مع الراهب الذى يشترى احتياجاتهم من السوق، ليتعرف على دنيا الله، رأى الصبى فتاة جميلة فسأل ببراءة، ما هذا؟ فجذبه الراهب بعيدًا وقال، هيا، هيا، هذا الشيطان! وعندما عادا سأله الأب، هل رأيت العالم؟ قال، نعم يا أبتِ، فسأله الأبُ، ما أجمل ما رأيت؟ قال الصبى، الشيطان. أما الرابع فهو وهم المسرح، فالناس ميالون إلى ترديد الأقوال المأثورة التى ننقلها عن السلف، دون تأمل أو تفكير، بوصفها أقوالاً مقدسة لا تقبل الجدل.
ثم أشارت إلى كتاب "السوبر مان" لبرنارد شو، الذى يرى أن الإنسان كان بدائيًّا، يعتمد على قوته البدنية للحصول على ما يريده دون حساب للأذى الذى يسببه لغيره، ووقتها لم يكن إنسانًا، ثم جاءت الديانات فهذبته، جعلته ينأى عن فعل الخطأ خوفًا من العقاب، وهنا أصبح إنسانًا، ثم سيأتى وقت فى المستقبل يغدو فيه الإنسان سوبرمان، أو الإنسان الأعلى، حيث لن يفعل الخطأ نشدانًا للجمال، وليس خوفًا من العقاب فى الدنيا أو الآخرة.
واختتمت ناعوت المحاضرة بقراءة قصيدة "أنا مسلم" التى ترجمتها عن الشاعر الإيرانى سهراب سيبيهرى التى يقول فى مطلعها: "أنا مسلم/ أقف قبالة الوردة الحمراء لأصلي/ أنبطح فوق رقائق الضوء لأصلي/ الحقل هو سجادة صلاتى/ أؤدى وضوئى بخفقات النوافذ/ فى صلاتى ثمة جيشان قمر/ وثمة دفقات قوس قزح مضىء/ من وراء صلاتى ثمة حجر كريم يمكن رؤيته/ وتلك البلورات البراقة هى جريئات صلاتي".
وفى محاضرتها الثانية تحدثت فاطمة ناعوت عن درجات الجمال ومستوياته، بدءًا من الجمال الطاغى الذى لا يملك الإنسان إمكانيات استيعابه، والتى أطلقت عليه مصطلح "اسفكسيا الجمال"، الذى هو الدرجة العليا من الجمال التى لا نستطيع أن نتحملها، والمتمثلة فى جمال الله، الذى ربما حجب نفسه عنا لأن لا قدرة لنا على تحمل نوره. كذلك النار التى قد تحرق مدينة بأسرها، هى ذاتها التى نأخذ منها قبسًا قليلاً لتغدو شمعة تنير ليلة حبيبين.
وأضافت، النار فى ضخامتها لا نتحملها، بينما فى قليلها جمال وعذوبة، "ليس أجمل من شكل اللهب فى تراقصه وتبدّل ألوانه وفيوضه بين الأحمر والبرتقالى والأرجوانى والأزرق، لذلك ابتكر الإنسان الشمعة ليحصّل مشاهدة النار التى تغذى فيه منازع الجمال والرومانتيكية، النار فى بهائها اللانهائى هذه لا نستطيع لمسها، ليس لأنها حارقة، لكن لأن درجة جمالها تفوق قدرة المرء على التحمّل، كيف بوسعنا أن نستوعب أن هذه الشمعة تتوسط حبيبين يتناجيان فى مكان ما! هى ذاتها التى تجعل طفلاً فى مكان آخر يصرخ وجعًا بعدما التهمت جسده!" كذلك فى رواية "اللؤلؤة" لجون شتاينبك، قالت إنها تحدثنا عن الصياد الهندى الأحمر الفقير "كينو" وزوجته "جوانا" وابنهما الرضيع "كويوتيتو" الذين يعيشون فى كوخ من أعشاب الشجر يصطادون اللؤلؤ من خليج المكسيك، فيشتريه التجار الشطّار بالبخس. وذات منحة سماوية ينجح كينو فى اصطياد "لؤلؤة العالم"، أكبر لؤلؤة صنعها بحر، لكنها، من فرط جمالها، كانت نقمة عليه وعلى أسرته، تسببت فى حصده كراهية الجيران وحرق بيته وقاربه وموت طفله، فما كان إلا أن ألقاها من جديد فى الماء!.
وقالت ناعوت، إن لوحات الله التشكيلية التى يرسمها لنا يوميًّا فى غيمات السماء وعلى صفحة البحر بالموج والزبد، هى لوحات من الجمال نستمتع بها ولا نقدر على امتلاكها، ونحن لجهلنا نربط بين الجمال وبين الشهوة فى امتلاكه، بينما الجمال لا يُمتلك.
وقالت، "إن أقل أنواع الجمال هو الجمال البصرى الذى نتيه به ونكتب عنه الأشعار ويرسمه التشكيليون ويغنى له المطربون". وحكت حكاية صينية شهيرة، للدلالة على كمون الجميل فيما نعتقد أنه قبيح، تقول، "إن امرأة عجوزًا كانت كل صبح تذهب إلى البئر حاملةً فوق كتفها عصًا مُعلّقًا بها إناءان من الفخار، أحدُهما سليمٌ ترجع البيتَ به مملوءًا بالماء لحافته، أما الآخرُ ففى قاعه شرخٌ طفيف يتسرّب منه نصفُ الماء فى الطريق، وخلال عامين كان الإناءُ السليم يباهى بصحّته واكتماله، فيما بدا المصدوعُ حزينًا، قال للسيدة ذات مساءٍ وهو مُطرقٌ فى أسفه، لَكَم أودُّ أن أعتذرَ لكِ عن عطبى الذى يُفقدك نصفَ مائى كل يوم! فابتسمتْ وقالت، ألم تلحظْ يا صديقى الطيب صفَّ الزهور الممتدَ على جانب الطريق من البئر حتى بيتنا؟ هو على جانبك أنت، وليس على جانب الإناء السليم الذى يفاخركَ باكتماله. ذلك إننى انتبهتُ لما تسميه "عطبًا" فيك، فبذرتُ البذورَ فى ناحيتك. وعلى مدى عامين ملأتُ بيتى بالزهور التى رواها الماءُ المنسربُ من شرخِك. بيتى يا عزيزى مَدينٌ لك بهذا الجمال!".
وفى نهاية المحاضرة قرأت ناعوت تصديرها لكتاب "يوميات قبطى ساخر/ واحد م البلد دي" تأليف فنان الكاريكاتير فيليب فكرى الذى سيصدر قريبًا عن دار ميريت للنشر والتوزيع، بغلاف مهدى من الفنان الكبير مصطفى حسين، وتكلمت عن الكتاب بوصفه صرخة مرحة نجحت أن تخلو من المرارة، فى وجه كل الممارسات الركيكة التى يعانى منها المسيحيون فى مصر من بعض إخوانهم المسلمين الذين أخفقوا فى تعلم درس الجمال البديهي، الذى يقول، الدين لله والوطن للجميع، وهى المقولة التى نادى بها المسيح قبل ألفى عام، ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وفى اليوم الأخير عُقد لقاء مفتوحٌ بين الراهبات والشاعرة فاطمة ناعوت، تناولت فيه تجربتها الإنسانية والأدبية، وأكدت فيه على آرائها فى الأمور العامة والوطنية التى تشغل كل غيور على استقرار مصر ورقيها، وخروجها من النفق المظلم الذى دخلته فى العقود الثلاثة الأخيرة، وأثر سلبًا على سلوك المواطن العادى فى تعامله اليومي، من إلقاء القاذورات فى الشارع حتى نفى الآخر ومحاربته، مؤكدة أن أجلى وأخطر مظاهر القبح فى الشارع المصرى الراهن هو سوء معاملة الكثير من المسلمين للأقباط، سلوكًا وقولاً، وهو الأمر الدخيل على ثقافة المواطن المصري، تلك التى انتعشت مؤخرًا مع استشراء المد الوهابى السلفى القادم من الجزيرة العربية، الذى يجعل من غير المسلم كافرًا.