انتفاضة أقباط العمرانية وإرهاب الدولة المصرية
الدكتور مجدى خليل
لا استطيع أن امنع نفسى من مقارنة الوضع فى نيويوريك بالوضع فى العمرانية بمحافظة الجيزة. فبعد أن حصل الامام فيصل عبد الروؤف على جميع التراخيص لبناء مسجد ضخم بالقرب من موقع جراوند زيرو تقدم بطلب للحصول على منحة بخمسة ملايين دولار من الأموال الفيدرالية المخصصة لتنمية المنطقة حول موقع مبنى مركز التجارة العالمى. يحدث ذلك رغم التحقيقات التى تجرى مع فيصل عبد الروؤف فى سرية من قبل مصلحة الضرائب الأمريكية لأتهامه بمخالفات مالية ، وهى تهمة قد تدخله السجن أو عند الحد الأدنى سيلتزم بارجاع هذه الأموال إلى المتبرعين، ويحدث ذلك أيضا فى وقت أكتشف الرأى العام الأمريكى أن فيصل عبد الروؤف قال فى نسخته الأندونيسية من كتابه الذى قامت زوجته ديزى بترجمة من الانجليزية إلى الأندونيسية ، فقد غير عنوان الكتاب من " ما هو خير للإسلام هو خير لأمريكا" إلى العنوان التالى فى الطبعة الاندونيسية( نداء الأذان من أنقاض مركز التجارة العالمى:دعوة فى قلب أمريكا بعد 11سبتمبر) ،وبأن صيحات الله واكبر سوف ترتفع على أنقاض مبنى مركز التجارة العالمى، ومع كل هذا يتجرأ بل ويتبجح ويطلب خمسة ملايين دولار كمنحة فيدرالية لبناء مسجده،أى أنه يطلب من الشعب الأمريكى تمويل مبنى تذكارى للشماتة فى ضحايا 11 سبتمبر !!!.( بالمناسبة صيحة الله واكبر هى نفس الصيحة التى كان يرددها محمد عطا ورفاقه أثناء الهجوم على مركز التجارة العالمى ووجدوها فى رسالة تركها فى حقيبته الخاصة، وهى نفس الصيحة التى كان يرددها النقيب نضال حسن أثناء هجومه على قاعدة فورت هود، وهى نفس الصيحة التى رددها القتلة فى كنيسة سيدة النجاة ببغداد، وهى نفس الصيحة التى يرددها المتطرفون المسلمون قبل أى عمل إرهابى).
فى العمرانية الوضع مختلف تماما، هو مشهد من المشاهد التى رأيناها فى غزة عام 1987 خلال انتفاضة أطفال الحجارة، بل وللأسف اسوأ، حيث أن الأمن المصرى هنا كان يقتحم دار عبادة بهدف هدمها وليس بهدف مطاردة مشاغبين، وأنه تعامل بكراهية وقساوة أكبر من تعامل قوات جيش الدفاع الإسرائيلى مع أطفال الحجارة، وتعدى ذلك إلى السرقة والنهب والتخريب الذى وصل حتى لصناديق النذور ودكك الكنيسة كما قال كاهنها مينا ظريف لمحطة ال" بى بى سى". لقد صدقت صحيفة لازاون الأسبانية بوصف هذه الهجمة البربرية "بالغزوة الصامتة " وصدق الدكتور محمد البرادعى فى وصف ما حدث بأنه " وصمة عار فى جبين كل مصرى".
السؤال المنطقى لماذا جن جنون المحافظ وأجهزة أمن الدولة وتصرفوا بهذه القسوة والحماقة رغم علمهم بأن هذه كنيسة وموافقتهم على ذلك ، بل قوله للكهنة مبروك عليكم كنيستكم ؟.
فى تقديرى الشخصى عندما رأوا قبة الكنيسة ترتفع على الطريق الدائرى. لقد كان الكاتب الإسلامى فراج إسماعيل أكثر صدقا ووضوحا منهم عندما وصف القبة بأنها " شئ مؤذ لمشاعر الأغلبية على الطريق الدائرى".ولعلنا نتذكر كيف قامت الدولة ببناء مسجد ملاصق لكوبرى 6 اكتوبر عند مدخل العجوزة حتى يستطيعوا أخفاء قبة كنيسة مارجرجس بالعجوزة المبنية قبل بناء الكوبرى بسنوات طويلة، ومع هذا فشل المسجد فى أخفاء قبة الكنيسة.
لقد فتح هذا الموضوع الكثير من التأملات المؤلمة التى اوجزها فى الأتى:
اولا: أن الأجهزة الأمنية والمخابراتية هى الأكثر عداء للأقباط بين جميع مؤسسات الدولة ،والأقباط ممنوعون من التواجد فى هذه الأجهزة لأن هذه المؤسسات تخطط سياساتها العدائية ضد الأقباط، ولهذا السبب يحرمون الأقباط من التواجد فيها.
فنحن نرى أن كل ما يقع على الأقباط من إضطهاد وإرهاب وتمييز هو مخطط ومقنن وممنهج ومستمر منذ عام 1952 وإزداد بشكل كبير منذ ظهور الاصولية الإسلامية فى العقود الثلاثة الأخيرة.
ثانيا:أن الشبكات المتطرفة الجهنمية التى تعمل على تفريغ منطقة الشرق الأوسط من مسيحييها، هى تعمل تحت مظلة بعض حكومات المنطقة وتنفذ سياسات منظمات إسلامية كبرى، وكما جاء فى كتاب " ملاحم ومجازر" لمؤلفه الكاتب السورى محمد حسن المنير، أن السادات صرح فى مؤتمر منظمة الإسلامى بجدة عام 1956 بأنه خلال عشر سنوات سيحول الأقباط إلى الإسلام أو يكونوا ماسحى احذية وشحاتين، وفى قمة منظمة المؤتمر الإسلامى فى لاهور عام 1980 طالبت المنظمة بضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من المسيحببن بحلول عام 2000، وعلى هذا يمكن فهم ما حدث فى العمرانية من هذا السياق، فبعد أيام من حرق 23 منزلا لأقباط بقرية النواهض بقنا بدون أن تحرك الدولة ساكنا لمعاقبة المجرمين تأتى اعتداءات الدولة ذاتها فى العمرانية، ولهذا لن يتوقف مسلسل الإعتداءات على الأقباط طالما نحن نعيش فى ظل ما يسمونه " الصحوة الإسلامية"،أو كما يسميها الكاتب الفلسطينى أحمد ابو مطر " الصحوة الإرهابية"، فهذه الصحوة هى من صناعة الأنظمة بالدرجة الأولى وفى مقدمتها النظامين المصرى والسعودى.
ثالثا: أن تعامل الدولة المصرية مع الأقباط تطور من التمييز إلى الإضطهاد إلى المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر فى معظم الجرائم التى تقع ضدهم إلى ممارسة إرهاب الدولة فى مواجهة أقلية مسالمة تسعى لممارسة حقوقها الطبيعية فى الصلاة والعبادة، فما حدث فى العمرانية هو شكل واضح من أشكال إرهاب الدولة.
رابعا: أن من حق الأقباط ممارسة شعائرهم الدينية وبناء كنائسهم وترميمها دون أنتظار تصريح من رئاسة الجمهورية أو من محافظ لأن هذه التصاريح تأتى تطبيقا لمرسوم الخط الهمايونى وهو قانون غير دستورى صادر عام 1856 ، ويتعارض مع التزامات مصر الدولية، كما أن الشروط العشرة المقيدة لبناء الكنائس هى شروط عنصرية ومذلة ومن حق الأقباط العصيان المدنى فى مواجهة القوانين التى تتعارض مع حقوقهم الدستورية فى المواطنة.
خامسا:سيذكر التاريخ لأقباط العمرانية بأنهم هم الذين بدأوا الأنتفاضة القبطية السلمية فى مواجهة النظام المصرى الفاشى العنصرى،وموقفهم الرجولى هذا ذكرنا ببطولات البشموريين فى مواجهة ظلم المأمون، وعلى الأقباط أن لا يعودوا مرة أخرى للمربع رقم صفر، وهو موقع المتفرج،فالإستسلام للإضطهاد معناه مزيدا من الإضطهاد والسكوت ليس حلا، وصدق مارتن لوثر كنج بقوله بأنه "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنيا".
سادسا:لم يكن مستغربا أن تتصدر أحداث العمرانية اغلب وسائل الإعلام المحترمة فى العالم، لأنه للمرة الأولى تثور أقلية مسيحية فى مواجهة مضطهديها من المسلمين،فالأقليات المسيحية تعيش اوضاعا صعبة فى الدول الإسلامية على حد تعبير بابا روما.وقد كان ملفتا للنظر صورة الأقباط وهم يلقون بالحجارة على قوات الأمن الغاشمة التى بدأت هى هجومها عليهم بالرصاص المطاطى، لقد جاءت هذه الصورة فى صدر الصفحة الأولى من صحيفة الهراليد ترابيون الدولية المحترمة مع تغطية واسعة فى الصفحات الداخلية، فتحرك أقباط مصر لمقاومة مضطهديهم هو شئ يلفت نظر الصحافة الدولية والتى تعودت منهم الصمت فى مواجهة مضطهديهم.
سابعا:كان لافتا للنظر أيضا أن هجمة العمرانية البربرية جاءت بعد أيام من صدور تقرير الحريات الدينية الأمريكى لعام 2010، وبعد الهياج فى الإعلام الرسمى على ما جاء فى التقرير،وهى رسالة للداخل المصرى وللناخب المسلم وللأقباط وليس لأمريكا،وإلا لماذا ينفقون الملايين سنويا على جماعات الضغط فى واشنطن لتحسين صورتهم أمام صانع القرار الأمريكى؟، ولماذا يكذبون ويدلسون فى ردودهم على أعضاء الكونجرس والمسئولين الغربيين؟.
ثامنا:لقد صدق الموقع القبطى " الأقباط الأحرار" بقوله لعنة الله على كل قبطى يعطى صوته للحزب الوطنى،فلا أمل يسترجى من هذا الحزب الذى يلقى الفتات للأقباط ويحتفى باليهوذات منهم. إن هذا الحزب تراوحت ترشيحات الأقباط على قوائمه فى العشرين عاما الماضية بين صفر و 1%، ويدعى كذبا بأن الأقباط سلبيون ولا يستطيعون المنافسة، فهذا الحزب لم ينجح فى تاريخه كله إلا بالتزوير، ولكن التزوير فى عرفه حلال للمسلمين حرام على الأقباط عملا بالقاعدة المعروفة أنصر أخالك المسلم ظالما ومظلوما، وهل هناك ظلم للوطن أكثر من تزوير إرادة شعبه.
تاسعا: من الأخبار السارة فى أحداث العمرانية هى فشل " فتنة الأمن"،فالوصف الحقيقى الدقيق لإنتقال الأحداث الطائفية فى مصر من محافظة إلى أخرى ومن قرية لقرية حتى وصلت للعزب والنجوع، هو " فتنة الأمن".. فهذه الأحداث من تأليف وسيناريو وحوار واخراج تقوم بها الأجهزة الأمنية فى مصر، وخاصة جهاز مباحث أمن الدولة.. فمباحث أمن الدولة تقوم بأخطر دور فى هذا الملف وهو محاولة تدمير العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر. فالمصرى بطبعه غير ميال للعنف، ولا يجرؤ على ارتكاب هذا العنف إلا بتشجيع من جهاز مباحث أمن الدولة الذى يقدم له الضمانات بعدم المحاكمة ويشجعه على أرتكاب خسيس الأفعال. ومع هذا فقد فشلت فتنة الأمن من قبل فى عدة مواقف ربما أشهرها قرية البلابيش الملاصقة للكشح حينما وقف بعض رجالها وقالوا لمفتش مباحث أمن الدولة بسوهاج وقتها لن نهاجم جيراننا فى الكشح وهم لم يسيئوا الينا، ولكنه لم يعدم الوسيلة لقتل الأقباط واستعان بمجرمين آخرين ووعدهم بالبراءةة وهو ما حدث.
عاشرا:لم يكن مستغربا حماس النائب العام للتحقيق مع عشرات الأقباط وتوجيه لستة من التهم اليهم ومنها الشروع فى قتل رجال الأمن، وهى أتهامات خطيرة ومجحفة تبغى تحويل الضحية إلى مجرم، فى حين أن هذا الحماس لم نراه من قبل إزاء المئات من حالات الاعتداءات الحقيقية على ارواح وممتلكات الأقباط والتى يشير الأقباط إلى مرتكبيها بالأسم.
وأخيرا:غزوة العمرانية مازالت فى فصلها الأول، ولهذا فنحن نحذر من العدالة العرجاء ونحذر من أى تعذيب يقع على المعتقلين ونحذر من أستمرار غلق الكنيسة، فلا تستهينوا بصبرنا، فلكل شئ تحت السماء وقت..ولقد حان الوقت للأقباط ليقولوا.. لا للظلم ..لا للإضطهاد.... لا للعنصرية.