بصيرة الداود تكتب .. التخلف «مصيبة»
يعتقد كثير من المثقفين العرب أن مشكلات التخلف في بلادنا ناتجة بالدرجة الأولى من سوء فهم النصوص الدينية، بحيث أثر ذلك في قيم ومفاهيم وعادات وتقاليد مجتمعنا. لكن حقيقة التخلف ومصيبته كما أراها في مجتمعنا، تكمن في طبيعة النظام الاجتماعي والثقافي الذي يسير عليه المجتمع، أو بمعنى أدق ينطلق التخلف من مؤسسات التربية والتعليم التي تسيطر المؤسسات الدينية على معظمها في عالمنا العربي، خصوصاً «تعليم المرأة» الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً أمام الجهلاء والمغرضين ممن ينطق ويفتي في أمور الدين كي يأخذوا تلك المؤسسات في اتجاه «الخرافة» التي يعشقونها ويبدعون في تأويلاتها بهدف إحلال منطق الفكر الغيبي غير العقلي والخرافة محل المنطق العقلي والجدلي، فيتم من خلال ذلك تقييد فكر المجتمع وتحديد نموه ليكون جاهزاً لتقبل احتكار السلطة له.
من المسلم به تاريخياً أن النصوص الدينية كافة لكل الديانات السماوية قد تكونت وتأثرت بروح عصر كل منها. وبالنسبة الى الدين الإسلامي، فإن قراءة الدعوات المتكررة في النصوص الدينية الخاصة بالأحكام وضرورة تطورها بتطور الأزمان قد تم تجاهلها من جهة معظم التابعين من الفقهاء وعلماء الدين عبر التاريخ، واستمر هذا التجاهل حتى وقتنا الحاضر الأمر الذي شجع الحركات السلفية المتطرفة على أن تجد لها مناخاً مناسباً كي تنشر من خلاله أفكارها وتأويلاتها الخاطئة للنصوص الدينية وتحقق غرضها وأهدافها بالسيطرة على المجتمع وتحديد اتجاهاته الفكرية والأيديولوجية، وذلك على حساب نشر وتثبيت قيم الدين الإسلامي الصحيحة ومُثُله التي نزلت لخير الإنسانية عامة، ونظامه الشرعي الروحي الذي يحفظ للمجتمع المسلم توازنه واستمرار بقائه.
لا شك في أن تحديات هذه المرحلة التاريخية المعاصرة توجب على العقلاء أن يسيروا في اتجاه «عقلنة الدين» وبأسلوب يظهر بناءه على أسس راسخة من العلم والمنطق والجدل التاريخي ويبعده عن الخرافة والغيبيات، بحيث لا يمكن أن تنال منه أيُ معاول للهدم سواء باسم الغيبيات والخرافة والتطرف والأوهام، أو باسم التحديث الذي يرفع لواءه معظم من لا يعي ويفهم معناه الحقيقي. وعقلنة الدين بأسلوب صحيح لا بد لها أن تحقق التوازن في التفكير والانسجام بنهج عقلاني غير منحرف ما بين أمور الدين وشؤون الدنيا.
وبمقارنة تاريخية بسيطة بين واقعنا الحاضر – نحن المسلمين - في فترة عصور النهضة الأوروبية فسوف تنكشف أمامنا أسباب تقدم الغرب ونهضته السريعة مع أسباب انحدارنا وتخلفنا السريع أيضاً. فمثلاً، حاول أتباع مارتن لوثر من البروتستانت تخليص العقيدة المسيحية الكاثوليكية من البدع والخرافات وتحويلها من مرحلة تقديس التقشف والرهبنة في الدين إلى مرحلة تقديس قيم الإخلاص والاستقامة في العمل والنشاط الاقتصادي وتعزيز مكارم الأخلاق الإنسانية وحقوقها، بحيث أثر كل ذلك في شكل إيجابي في الإسراع بالنهضة الأوروبية، خصوصاً في البلاد التي اتخذت من البروتستانتية عقيدة لها. وبعد «اللوثريين» برزت التيارات الفكرية التنويرية في أوروبا وأهمها التيار العلماني الذي ينادي بعزل الدين كلية عن شؤون الدنيا والسياسة، فحقق تقدماً مدهشاً في مجالات النمو والتطور العلمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، لأن أتباع هذا التيار أخذوا بالنهج العقلاني والموضوعي والمساءلة والنقد في جميع شؤون حياتهم المادية وتبنوا نظاماً ديموقراطياً يقوم على أساس حرية العمل وحرية الرأي والتعبير عنه، وحرية التبادل الثقافي والاقتصادي. لكنهم خسروا مقابل كل تلك الحرية كثيراً من قيمهم ومثلهم العليا بسبب فصلهم التام للدين عن شؤون الدنيا ومن دون الاهتمام عند دعوتهم لمثل هذا الفصل بإزالة كل ما كان يعترض التفكير الغيبي في الديانة المسيحية من تناقض مع التفكير العقلاني الذي يمارسه المرء عند تصريف شؤون دنياه، ومن دون محاولة الاهتمام بإظهار أسباب هذه الدعوة لفصل الدين تماماً عن شؤون الدنيا والسياسة.
أما عالمنا العربي والإسلامي فإنه كان في تلك المرحلة التاريخية ولا يزال يحاول التوفيق بين الدين والدنيا، فبرز مفكرون وعلماء جاهدوا للتوفيق بين الفكر الإسلامي وأسباب التقدم والنهضة في الغرب، ونجحوا في مرحلة تاريخية معينة ومحددة في تقديم أسباب تخلف الفكر الديني عند العرب الذين أصابهم ولا يزال الجمود والعنف والتعصب والانغلاق والطائفية، وترسيخ الفهم الخاطئ للنصوص الدينية كما ورثوها من أسلافهم، لكنهم لم يحققوا النجاح المطلوب في محو أسباب هذا التخلف الفكري في فهم الدين ونصوصه بالشكل الإسلامي الصحيح، فظل العقل مغيّباً ومنحرفاً عن العقلانية والموضوعية والمنطق الصحيح المطلوب كنهج للتفكير سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية، كما بقيت حرية الرأي والتعبير مقيدة ومجمّدة بضغط من السلطات السياسية الحاكمة والمدعومة دائماً من السلطات الدينية التي تحرسها وتضمن صكوك غفرانها الفوز بالدنيا ونعيم الآخرة!
يعاني عالمنا العربي من محاصرة دينية للتربية والتعليم والفكر والثقافة من جهة رجال كهنوت تقليديين أهملوا - عن عمد وقصد - جانب التفكير في الأسس الموضوعية للفكر الإسلامي الصحيح، مثلما أهمل العلمانيون في الغرب بعضاً من مثلهم الأخلاقية المهمة، ولا بد لهذا العالم العربي، الذي يقوده أمثال هؤلاء من المغرضين والجهلاء بالدين وإن نطقوا باسمه ورفعوا لواءه، أن يصاب بكل أمراض التخلف الاجتماعي والديني.
ربما يقول قائل إن الحل يكمن في العودة مرة أخرى إلى تاريخ حضارة المسلمين لاستلهام العظة والعبرة من السلف الصالح.
لكني أقول إننا لا نزال نجني ثمار عودتنا الخاطئة الى تاريخ أسلافنا، فكانت النتيجة أننا فهمنا الدين في شكل خاطئ وسرنا ولا نزال خلف تاريخنا الإسلامي والحديث بدلاً من أن نحاول إكماله وتطوير الحضارة التي كان لنا مجدٌ فيها.